الكتاب الأول يعاد

 

مِسْك الختام

 

أنتُم، أيها الرجال!

وأنتنّ، أيتها النساء!

أنتم، أيها الشيوخ والحاخاميون والكرادلة!

وأنتنّ، أيتها الممرضات وعاملات النسيج!

لقد انتظرتُم طويلاً

ولم يقرع سعاة البريد أبوابكم

حاملين إلىكم الرسائل التي تشتهون

عبر الأسيجة اليابسة..

أنتُم، أيها الرجال!

وأنتنّ، أيتها النساء!

لا تنتظروا، بعدُ، لا تنتظروا!

اخلعوا ثياب نومكم

واكتبوا إلى أنفسكم

رسائلكم التي تشتهون..

سميح القاسم

[قرآن الموت والياسمين]

 

سعيد يدّعي التقاء مخلوقات من الفضاء السحيق

 

كتب إلىّ سعيد أبو النحس المتشائل، قال: أبلغ عني أعجب ما وقع لإنسان منذ عصا موسى، وقيامة عيسى، وانتخاب زوج المقصود الرئيس جونسون.الليدي بيرد رئيسًا على الولايات المتحدة الأميركية.

أما بعد، فقد اختفيت. ولكنني لم أمت. ما قتلت على حدود كما توهم ناس منكم، وما انضممت إلى فدائيين كما توجس عارفو فضلي، ولا أنا أتعفن منسيّا في زنزانة كما تقوّل أصحابك.

صبرا، صبرا، ولا تتساءل: من سعيد أبو النحس المتشائل هذا? لم ينبه في حياته، فكيف ننبه له?

إنني أدرك حطتي، وإنني لست زعيمًا فيحس بي الزعماء، ولكن، يا محترم، أنا هو الندل الخادم الذي يقدم الطعام والشراب.

ألم تضحك من الأضحوكة الإسرائيلية عن السبع الذي تسرب إلى مكاتب اللجنة التنفيذية? ففي اليوم الأول افترس مدير التنظيم النقابي، فلم ينتبه زملاؤه.. وفي اليوم الثاني افترس مدير الدائرة العربية، فلم يفتقده الباقون. فظل السبع يمرح مطمئنّا ويفترس مريئًا حتى أتى على ندل السُفرة، فأمسكوه.

أنا الندل، يا محترم، فكيف لم تنتبهوا على اختفائي?

لا هم. فالأهم أن اختفائي جاء في أمر عجب ترقبت وقوعه طول العمر. وقعت العجيبة يا معلم، والتقيت مخلوقات هبطت علينا من الفضاء السحيق. وأنا ذا موجود الآن في المعية. وأنا ذا أكتب إلىك بسري العجيب هذا، وأنا محلق فوق رؤوسكم.

إياك والريبة، وقولك إن عصر العجائب قد ولّى. فما دهاك، يا معلمي، حتى صرت تعكس الأمور?

أما والذين أنا في كنفهم، فإن عصرنا هذا لهو من أعجب العصور، منذ عاد وثمود، إلاّ أننا ألفنا هذه العجائب. فلو قام أسلافنا واستمعوا إلى الراديو، وشاهدوا التلفزيون، ورأوا طائرة الجامبو وهي تهبط في ليل المطار الدامس، تنش وتقصف، لأشركونا.

ولكننا تعودنا. فلم نعد نجد في خلع الملوك خارقًا ولا في بقائهم. فبروتس لم يعد أمرًا فذا تكتب الروايات عنه: حتى أنت يا بروتس! ولا تقول العرب: حتى أنت يا بيبرس! وذلك أن السلطان قطز قطز السلطان المملوكي الذي وقعت في عهده وقعة عين جالوت، بالقرب من الناصرة. وهي الوقعة الشهيرة التي أوقفت زحف هولاكو التتري. وكان بيبرس قائد هذه الوقعة تحت إمرة قطز، فأبلى بلاء حسنًا. فتوقع أن يقطعه قطز مدينة حلب. ولكن قطز خيب أمله. فتآمر بيبرس وزميل له على حياة قطز. فأكب زميله على يد السلطان يقبلها، فأهوى بيبرس على عنق السلطان بالسيف فقتله وقعد مكانه. وذلك في سنة 1261م.لم يخرج من فيه سوى حشرجة تركية. وما زال أبو زيد الهلالي يكب على الأيدي تقبيلاً، فلا يتطير السلطان.

لست قطز - يقول الملك. ولا زماني زمان الببرسة يقول: عبده.

والقمر أصبح أقرب علينا من تينتنا القمراء التي يتأخر إيناع ثمرها.في قريتنا الثكلى. وسلمتم بكل هذه العجائب، فكيف تنكرون عليّ عجيبتي?

مهلاً، مهلاً ولا تتعجل الشرح، يا معلم. كل شيء في وقته يعسل. فاذهب بسلامتك ولا تماحكني في شكلهم، وفي لباسهم، وفي نظامهم، وفي علومهم. إني أقهقه في وجوهكم: لقد أصبحت أعلم ما لا تعلمون، فكيف لا أتبغدد?

أما كيف اختاروني من دون خلق الله أجمعين، فلست متىقنًا أنني الوحيد الذي التقاهم. وحين استنصحتهم في إطلاعك على ما وقع لي، كي يعلم العالم، تبسموا وقالوا: لا بأس. ولكن العالم لن يعلم. وصاحبك لن يصدقك، فليس كل ما يهبط من السماء وحيا. وهذه من عجائبكم!

قد لا أكون الوحيد الذي اختاروه. ولكنني، وحقك، مختار من المخاتير. وأنت أيضًا، يا معلم أصبحت مختارًا. فأنا اخترتك لتروي عني أعجب عجيبة، فتميط عجبًا!

كيف اختاروني? لأنني اخترتهم. ظللت طول العمر أبحث عنهم، وأنتظرهم، وأعوذ بهم، حتى لا مندوحة.

عجيبة? لا بأس. كان أسلافنا في الجاهلية يصنعون آلهتهم من التمر، حتى إذا جاعوا أكلوها. فمن الجاهلي يا معلم، أنا أم أكلة آلهتهم?

ستقول: لأن يأكل الناس آلهتهم خير من أن تأكلهم الآلهة. فأرد عليك: إن آلهتهم كانت من التمر!

سعيد يعلن أن حياته في

 

إسرائيل كانت فضلة حمار!

 

لنبدأ من البداية. كانت حياتي كلها عجيبة. والحياة العجيبة لا تنتهي إلاّ بهذه النهاية العجيبة. حين سألت صاحبي الفضائي: كيف آويتموني? قال: هل لديك من بديل?

فمتى كانت البداية?

كانت البداية حين ولدت مرة أخرى بفضل حمار.

ففي الحوادث كمنوا لنا وأطلقوا الرصاص علينا. فصرعوا والدي، رحمة الله عليه. أما أنا فوقع بيني وبينهم حمار سائب، فجندلوه. فنفق عوضًا عني. إن حياتي، التي عشتها في إسرائيل بعد، هي فضلة هذه الدابة المسكينة. فكيف علينا أن نقوم حياتي يا أستاذ?

غير أنني أراني إنسانًا فذًا. ألم تقرأ عن كلاب لعقت الماء المشبع بالسم، فماتت، لتنبه أسيادها ولتنقذ حياتهم? وعن الخيول التي فرت بفرسانها الجرحى، تعدو سوابق ريح، فأنفقها الإجهاد بعد أن بلغت بهم مضارب الأمان? أمَّا أنا فأول إنسان، على ما أعهد، أنقذه حمار محرن لا يسابق ريحًا ولا يبغم. فأنا إنسان فذ. وقد يكون الفضائيون اختاروني على ذلك.

علمني، بحياتك، الإنسان الفذ من يكون? أهو الذي يختلف عن الآخرين، أم هو الواحد من هؤلاء الآخرين?

قلت إنك لم تحس بي أبدًا، ذلك أنك بليد الحس يا محترم. فكم من مرة التقيت اسمي في أمهات الصحف? ألم تقرأ عن المئات الذين حبستهم شرطة حيفا في ساحة الحناطير (باريس حاليًا) يوم انفجار البطيخة? كل عربي ساب في حيفا السفلى على الأثر حبسوه، من راجل ومن راكب. وذكرت الصحف أسماء الوجهاء الذي حبسوا سهوًا، وآخرين.

آخرون - هؤلاء أنا. الصحف لا تسهو عني. فكيف تزعم أنك لم تسمع بي? إني إنسان فذ. فلا تستطيع صحيفة ذات اطلاع، وذات مصادر، وذات إعلانات، وذات ذوات، وذات قرون، أن تهملني. إن معشري يملأون البيدر والدسكرة والمخمرة. أنا الآخرون. أنا فذ!

سعيد ينتسب

 

إن اسمي، وهو سعيد أبو النحس المتشائل، يطابق رسمي مخلقًا منطقًا. وعائلة المتشائل عائلة عريقة نجيبة في بلادنا. يرجع نسبها إلى جارية قبرصية من حلب لم يجد تيمورلنك لرأسها مكانًا في هرم الجماجم المحزوزة، مع أن قاعدته كانت عشرين ألف ذراع وعلوه كان عشر أذرع، فأرسلها مع أحد قواده إلى بغداد لتغتسل فتنتظر عودته. فاستغفلته. (ويقال - وهذا سر عائلي - إن ذلك كان السبب في المذبحة المشهورة). وفرت مع أعرابي من عرب التويسات، اسمه أبجر، الذي قال فيه الشاعر:

يا أبجر بن أبجر يا أنتَ

أنت الذي طلقت عام جُعْتَ

 

فطلقها حين وجدها تخونه مع الرغيف بن أبي عمرة أبو عمرة كنية الجوع.، من غور الجفتلك، الذي طلقها في بير السبع. وظل جدودنا يطلقون جداتنا حتى حطت بنا الرحال في بسيط من الأرض أفيح متصل بسيف البحر، قيل إنه عكاء، فإلى حيفاء على الشاطئ المقابل من البسيط. وبقينا مطلاقين حتى قامت الدولة.

وبعد النحس الأول، في سنة 1948، تبعثر أولاد عائلتنا أيدي عرب، واستوطنوا جميع بلاد العرب التي لما يجر احتلالها. فلي ذوو قربى يعملون في بلاط آل رابع في ديوان الترجمة من الفارسية وإلىها. وواحد تخصص بإشعال السجائر لعاهل آخر، وكان منا نقيب في سوريا، ومهيب في العراق، وعماد في لبنان. إلاّ أنه مات بالسكتة يوم إفلاس بنك أنترا. وأول عربي عينته حكومة إسرائيل رئيسًا على لجنة تسويق العلت والخبيزة في الجليل الأعلى هو من أبناء عائلتنا، على أن والدته، كما يقال، هي شركسية مطلقة. وما زال، عبثًا، يطالب بالجليل الأدنى. ووالدي، رحمه الله، كانت له أياد على الدولة قبل قيامها. وخدماته هذه يعرفها تفصيلاً صديقه الصدوق ضابط البوليس المتقاعد، الأدون سفسارشك.

ولما استشهد والدي، على قارعة الطريق، وأنقذني الحمار، ركبنا البحر إلى عكا. فلما وجدنا أن لا خطر علينا، وأن الناس لاهون بجلودهم، نجونا بجلودنا إلى لبنان حيث بعناها واسترزقنا.

فلما لم يعد لدينا ما نبيعه، تذكرت ما أوصاني به والدي وهو يلفظ أنفاسه على قارعة الطريق. قال: رح إلى الخواجة سفسارشك، وقل له: والدي، قبل استشهاده، سلم عليك، وقال: دبرني!

فدبرني.

 

سعيد يدخل إسرائيل لأول مرة

 

قطعت الحدود في سيارة دكتور من جيش الإنقاذ كان يغازل أختي في عيادته في وادي الصليب في حيفا. فلما رحلنا إلى صور وجدناه في استقبالنا. فلما بدأت أرتاب في الأمر تحول إلى أعز أصحابي. فاستذوقتني زوجه. فسألني: هل تحفظ السر? قلت: مثل نجم فوق عاشقين. قال: فأمسك لسانك إنها فروط. فأمسكت.

فلما كشفت له عن رغبتي في التسلل إلى إسرائيل، تبرع بحملي في سيارته. وقال: أفضل لك. قلت: ولك. فقال: على بركة الله. وباركتنا الوالدة.

بلغنا ترشيحا حين كانت الشمس والأهالي تهجرها. فاستوقفنا الحرس. فأظهر الدكتور بطاقته فحيونا، وكنت مذعورًا. فضحك الدكتور وشتمهم فشتموه وضحكوا.

وبتنا في معليا حتى استيقظت قبل الفجر على همس صادر عن سرير الدكتور إلى جانبي. فحبست أنفاسي. فتبينت صوتًا يهمس أن زوجها لا يستيقظ الساعة. فقلت: لا يمكن أن تكون هذه أختي، فأختي لا زوج لها حتى الآن. فنمت مطمئنًا.

وتغدينا في بيت والدها في أبو سنان، وكانت في ذلك الوقت أرضًا حرامًا، أي لا يطرقها سوى الجواسيس وتجار الغنم والحمير السائبة.

واكتروا لي دابة هبطت على ظهرها إلى كفرياسيف.. وكان ذلك في صيف عام .1948 وعلى ظهر الجحش من أبو سنان إلى كفرياسيف احتفلت بصيفي الرابع والعشرين.

وأرشدوني إلى مقر الحاكم العسكري. فدخلته راكبًا على جحش بن أتان. وكانت على عتبته ثلاث درجات صعدتها الدابة في خيلاء.

فتدافع العسكر نحوي، مذهولين. فصحت: سفسارشك، سفسارشك! فانطلق نحوي عسكري سمين. وصرخ: أنا الحاكم العسكري، وانزل عن الحمار. قلت: أنا فلان بن فلان، ولا أنزل إلاّ على عتبة الخواجا سفسارشك. فشتمني، فصحت: أنا طنيب على الخواجا سفسارشك. فشتم الخواجا سفسارشك. فنزلت عن الحمار.

بحْث في أصْل المتشائل

 

لما نزلت عن الحمار رأيتني أطول قامة من الحاكم العسكري. فاطمأنت نفسي حين وجدتني أطول قامة منه بدون قوائم الحمار. فارتحت على مقعد من مقاعد المدرسة التي حولوها إلى مقر الحاكم وحولوا ألواحها إلى طاولة بنغ بونغ.

شعرت بالاطمئنان وحمدته على أنني أطول قامة من الحاكم العسكري بدون قوائم الحمار.

هذه هي شيمة عائلتنا. ولذلك سميت بعائلة المتشائل. فالمتشائل هي نحت كلمتىن اختلطتا على جميع أفراد عائلتنا منذ مطلقتنا القبرصية الأولي. وهاتان الكلمتان هما المتشائم والمتفائل. فدعينا بعائلة المتشائل. ويقال إن أول من أطلقها علينا هو تيمورلنك نفسه بعد مذبحة بغداد الثانية. وذلك لما وشوا بجدي الأكبر، أبجر بن أبجر، وأنه، وهو على متن فرسه خارج أسوار المدينة، التفت فشاهد ألسنة اللهب، فهتف: بعدي خراب بصرى!

خذني أنا مثلاً، فإنني لا أميز التشاؤم عن التفاؤل. فأسأل نفسي: من أنا? أمتشائم أنا أم متفائل?

أقوم في الصباح من نومي فأحمده على أنه لم يقبضني في المنام. فإذا أصابني مكروه في يومي أحمده على أن الأكره منه لم يقع، فأيهما أنا: المتشائم أم المتفائل?

ووالدتي من عائلة المتشائل أيضًا. وكان أخي البكر يعمل في ميناء حيفا. فهبت عاصفة اقتلعت الونش الذي كان يقوده وألقته معه في البحر فوق الصخور، فلموه وأعادوه إلىنا إربًا إربًا، لا رأس ولا أحشاء. وكان عروسًا ابن شهره. فقعدت عروسه تولول وتندب حظها. وقعدت والدتي تبكي معها صمتًا. ثم إذا بوالدتي تستشيط وتضرب كفا بكف وتبح قائلة: (مليح أن صار هكذا وما صار غير شكل)! فما ذهل أحد سوى العروس، التي لم تكن من العائلة فلا تعي الحكم. ففقدت رشدها، وأخذت تعول في وجه والدتي: أي غير شكل يا عجوز النحس (هذا اسم والدي، رحمه الله): أي شكل بعد هذا الشكل يمكن أن يكون أسوأ منه?

ولم يرق والدتي نزق الشباب. فأجابتها بهدوء، وكأنها تقرأ في المندل: أن (تخطفي) في حياته يا بنية - أي أن تهربي مع رجل آخر. علمًا بأن والدتي تحفظ شجرة العائلة عن ظهر قلب.

والحقيقة أنها هربت، بعد سنتين، مع رجل آخر. فكان عاقرًا. فلما سمعت الوالدة أنه عاقر، رددت لازمتها: فلماذا لا نحمده?

فأيهم نحن: المتشائمون أم المتفائلون?

كيف شارك سعيد في حرب الاستقلال لأول مرة

 

ولنعد، يا محترم، إلى مقر الحاكم العسكري الذي، ما أن شتم الأدون سفسارشك حتى نزلت عن الحمار. فسرعان ما تبين لي أن الشتم لا يدل على استهانة الشاتم بالمشتوم، بل يدل، أحيانًا، على الغيرة.

فما أن قعدت على المقعد راضيًا عن أن قامتى أطول من قامة الحاكم العسكري، حتى بدون قوائم الدابة، حتى هرع هذا الأخير، أي الحاكم العسكري، إلى التلفون ورطن فيه ببعض كلام لم أفهم منه سوى اسمين ارتبطا بي فيما بعد زمنًا طويلاً: أبي النحس وسفسارشك. ثم ألقاه، وصاح في وجهي أن قم. فقمت.

قال: أنا أبو إسحق، فاتبعني. فتبعته إلى سيارة جيب أوقفوها بقرب العتبة وحماري يتمخط إلى جانبها. قال: لنركب. فاعتلى سيارته واعتليت جحشي. فزعق، فانتفضنا، فوقعت عن ظهر الحمار، فوجدتني بقربه، أي بقرب الحاكم العسكري في السيارة التي توجهت بنا غربًا في طريق ترابي بين أعواد السمسم. قلت: إلى أين? قال: عكا، وانكتم. فانكتمت.

وما أن مرت بضع دقائق حتى أوقف الجيب فجأة، وانطلق منه كالسهم، وقد أشرع مسدسه. ثم اخترق أعواد السمسم وكشفها ببطنه، فإذا بامرأة قروية مقرفصة ووليدها في حجرها وقد رأرأت عيناه.

فصاح: من أية قرية?

فظلت الأم مقرفصة تطل عليه بنظرات شاخصة مع أنه كان واقفًا فوقها كالطود.

فصاح: من البروة?

فلم تجبه بعينيها الشاخصتين.

فصوب مسدسه نحو صدغ الولد، وصاح: أجيبي أو أفرغه فيه.

فانكمشت تأهبًا للانقضاض عليه، وليكن ما يكون. ففي عروقي تجري دماء الشباب الحارة، أنا ابن الرابعة والعشرين، وحتى الصخر لا يطيق هذا المنظر. غير أني تذكرت وصية أبي وبركة والدتي. فقلت في نفسي: سأثور عليه إذا ما أطلق الرصاص. ولكنه يهددها فحسب. فبقيت منكمشًا.

وأما المرأة، فقد أجابته هذه المرة: نعم من البروة.

فصرخ: أعائدة أنت إليها?

فأجابته: نعم عائدة.

فصرخ: ألم أنذركم أن من يعود إلىها يقتل? ألا تفهمون النظام? أتحسبونها فوضى? قومي اجري أمامي عائدة إلى أي مكان شرقًا. وإذا رأيتك مرة ثانية على هذا الدرب، فلن أوفرك.

فقامت المرأة، وقبضت على يد ولدها وتوجهت شرقًا دون أن تلتفت وراءها. وسار ولدها معها دون أن يلتفت وراءه.

وهنا لاحظت أولى الظواهر الخارقة التي توالت علي فيما بعد حتى التقيت، أخيرًا، صحبي الفضائيين. فكلما ابتعدت المرأة وولدها عن مكاننا، الحاكم على الأرض وأنا في الجيب، ازدادا طولاً حتى اختلطا بظليهما في الشمس الغاربة، فصارا أطول من سهل عكا. فظل الحاكم واقفًا ينتظر اختفاءهما، وظللت أنا قاعدًا أنكمش، حتى تساءل مذهولاً: متى يغيبان?

إلا أن هذا السؤال لم يكن موجهًا إلىّ.

والبروة هذه هي قرية الشاعر الذي قال، بعد 15 سنة:

(أهنئ الجلاد منتصرًا على عين كحيلة

مرحى لفاتح قرية، مرحى لسفاح الطفولة)

 

فهل كان هو الولد? وهل ظل يمشي شرقًا بعد أن فك يده من قبضة أمه وتركها في الظل?

لماذا أروي لك، يا معلم، هذه الحادثة التافهة?

لعدة أسباب منها: ظاهرة نمو الأجسام كلما ابتعدت عن أنظارنا.

ومنها أنها برهان آخر على أن اسم عائلتنا العريقة هو اسم له هيبته في قلوب رجالات الدولة. فلولا هذه الهيبة لأفرغ الحاكم مسدسه في رأسي، وقد شاهدني منكمشًا تأهبًا.

ومنها: أني شعرت، لأول مرة، أنني أكمل رسالة والدي، رحمه الله، وأخدم الدولة، بعد قيامها على الأقل. فلماذا لا أتبحبح مع الحاكم العسكري?

وتبحبحت، فسألته: سيارتك هذه، من أي موديل?

فقال: انكتم.

فانكتمت.

فشاعر البروة، السالف الذكر، قال:

)نحن أدرى بالشياطين التي

تجعل من طفل نبيا (

 

ولم يدر، إلاّ أخيرًا، بأن هذه الشياطين نفسها تجعل من طفل آخر نسيًا منسيًّا.

ورود ذِكْر (يُعاد) لأول مرة

 

استقبلتنا عكا، حين دخلناها، وقد التفت بعباءة الليل العباسية. فتذكرت صاحبتي (يُعاد)، التي لم تبتسم في القطار لسواي، فتسارع وجيب الفؤاد.

فعكا، التي صمدت للصليبيين أطول مما صمد غيرها من الحواضر، وردت نابليون، ولم يدخلها التتار. حافظت على هيبتها بعد أن هرمت وشاخت وأصبح سورها محششة، ومنارها مثل قنديل جحا.. فظلت القصبة حتى بعد أن تصنعت حيفا واستشببت. وظلت مدرستها الثانوية، في الغرف الكلينية على كتف السور الشرقي، أعلى صفوفًا من مدرسة حيفا الثانوية. فانتقلنا إلى (مدرسة الفرقة) مدرسة الفرقة - هي مدرسة عكا الثانوية قبل قيام الدولة. سميت بهذا الاسم لأنها كانت مركز الحامية التركية في عكا.في عكا، ذهابًا وإيابًا يوميًا في القطار. وفي القطار التقينا صاحبتي (يعاد) الحيفاوية التي كانت مثلنا تتأبط مزودتها، وتتعلم في مدرسة البنات العكية، وتعود معنا. إلاّ أنها كانت تنزوي في المقصورة الوحيدة في القطار، تدخلها وقد أسدلت إيهابها، وتخرج منها على هذه الحال. فسارقتني النظر بعينيها الخضراوين من باب المقصورة المشقوق، فعلقتها. فنادتني ذات صباح أن أفسر لها كلمة بالإنجليزية. فلما عجزت عنها فسرتها لي، وقالت: اقعد. فصرت أقعد معها في الذهاب وفي العودة. فأحببتها حبًا جمًا. فقالت إنها أحبتني لأنني خفيف الظل وضحكتي عالية.

ولكن غيرة زميل من زملائي جعلتني أبكي بدون صوت.

فقد وشى بي إلى مدير مدرستها، الذي أحال كتابه إلى مدير مدرستنا، فاستدعى جميع طلاب حيفا القطاريين. وهاج وماج، ثم قال: حيفا عكا بحر، بينهما بحر. ما يجوز في حيفا لا يجوز في عكا. هذه مدينة محافظة منذ أيام صلاح الدين.

فتذكرت المغفور له الرحالة أبا الحسن محمد بن أحمد بن جبير الكناني، الأندلسي، الشاطبي، البلنسي، الذي بات ليلتين في خان عكاوي، في زمن صلاح الدين، فكتب عنها أنها (تستعر كفرًا وطغيانًا)، وأنها (مملوءة كلها رجسًا وعذرة). وكان جدي لأبي، رحمهما الله، الذي (خطفت) امرأته الأولى، يعلمنا منذ الصغر قائلاً: فعلت ذلك لأنها من عكاء. وكان يمطها توكيدًا.

 

فتنطحت للمدير وصحت في وجهه همسًا: ولكنها ليست من عكاء!

فطردنا من مكتبه، وكتب إلى أهلها. فأرسلوا من ضربني في المحطة. فازددت هيامًا بها. فضربت زميلي الذي وشى بنا. فوقعنا من القطار على رمل الشاطئ فلم نتأذ. وعدنا إلى حيفا مشيًا على الأقدام بعد أن اغتسلنا في البحر. وأطعمنا الغوارنة خبز صاج بالزيت وبالملح وسرقوا المزودتين.. فرجعنا أعز الصحاب حتى يومنا هذا.

وأما (يعاد)، التي لم تعد إلى القطار منذ كتاب المدير إلى أهلها، فلم أعثر لها على أثر. ولكن قلبي ظل مجروحًا بحبها.

فلما دخلنا عمارة الشرطة، على الشاطئ الغربي، وسلمني الحاكم إلى أحد ضباطها، أمرني: عد في الصباح لأنقلك إلى حيفا. ثم استدرك: فأين ستقضي ليلتك هنا? قلت: (يعاد)! فصاح الضابط: هل أنت أطرش? وأعاد على مسامعي تعليماته. قلت: لا أعرف أحدًا هنا سوى مدير المدرسة، فلان الفلاني.

فتشاورا، ثم قال الحاكم للضابط: احمله إلى جامع الجزار. فحملني بجيبه. حتى إذا وصلنا إلى سبيل الطاسات أوقف سيارته فترجلنا وقرع باب المسجد بمطرقة الباب التاريخية. فسمعنا لغطا ثم انحبس.. ثم سمعنا بكاء طفل ثم انكتم، فوقع أقدام تتجرجر. ثم انفتح الباب عن شيخ هرم، نحيل، في ثوب هدم، وهو يؤهل. فأمر الضابط: هذا واحد آخر عليه أن يثبت وجوده في المركز صباحًا. فقال الشيخ: ادخل يا ابني. فدخلت. فلما أمعنت النظر في وجهه عرفت فيه مدير المدرسة. فهتفت: آه يا معلمي، إن والدي رحمه الله، قد أوصاك بي خيرًا. فقال: إن خيري كثير يا ولدي، ادخل فَتَره!!

جلسة ليلية عجيبة في فناء جامع الجزار

 

صفق معلمي براحتيه ثلاثًا، ثم قال مخاطبًا الظلام في فناء المسجد: عودوا إلى شؤونكم يا قوم، فهذا واحد منا.

فإذا باللغط المحبوس ينفلت. وتنشال الأكف عن أفواه الأطفال المنكتمة. وأرى أشباحًا تتقدم نحونا من غرف المدرسة الأحمدية التي تحيط بالفناء الرحب من أطرافه الثلاثة، الشرقي والشمالي والغربي، فتتحلقنا، وتقرفص بعد أن تطرح السلام، فعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فتستفهم عني.

قلت: إني عائد من لبنان.

فإذا بهرج وبمرج.

فصاح معلمي: هذا ولدنا يا جماعة. فإذا عاد، عاد الآخرون.

فسأل سائل: هل عدت متسللاً?

فلم أشأ أن أحدثهم عن الدكتور عشيق أختي، ولا عن الدابة، ولا عن الأدون سفسارشك، فقلت: نعم.

- فسيطردونك الليلة.

قلت: إن لوالدي، الذي أعطاكم عمره، صديقًا من كبارهم، اسمه الأدون سفسارشك.

فعاد الصخب. وعاد معلمي يطمئنهم: إن هو إلاّ صبي لم يبلغ الحلم. مع أن الليلة هي ليلة ميلادي الرابع والعشرين. وكنت في حلم حقًا.

وشكرت معلمي على أنه لم يدَّع أنني صبيه كي ينقذني من غضبهم، الذي لم أدرك له سببًا.

حتى أنسوا بي، فأمطروني بالأسئلة عن شظايا أهلهم الذين التجأوا إلى لبنان.

- نحن من الكويكات، التي هدموها وشردوا أهلها، فهل التقيت أحدًا من الكويكات?

فأعجبني ترديد الكاف في الكويكات. فعاجلت ضحكتي قبل أن تنطلق، لولا صوت امرأة جاء من وراء المزولة غربًا:

- البنت ليست نائمة يا شكرية، البنت ميتة يا شكرية.

ثم تناهت إلىنا صرخة مخنوقة، فاختنقت أنفاس الجمع حتى انحبست الصرخة. فعادوا إلى استجوابي. فقلت: لا.

- أنا من المنشية. لم يبق فيها حجر على حجر، سوى القبور. فهل تعرف أحدًا من المنشية?

- لا.

- نحن هنا من عمقا، ولقد حرثوها، ودلقوا زيتها. فهل تعرف أحدًا من عمقا?

- لا.

- نحن هنا من البروة. لقد طردونا وهدموها، هل تعرف أحدًا من البروة?

- أعرف امرأة كانت مختبئة مع طفلها بين أعواد السمسم.

فسمعت أصواتًا كثيرة تحدس أيهن تكون هذه المرأة، فعدوا أكثر من عشرين أم فلان حتى صاح كهل من بينهم: كفوا! إنها أم البروة، فحسبها وحسبنا. فكفوا.

ثم عادت الأصوات تنتسب في عناد، مع أن قراها، كما فهمت، قد درستها العسكر:

- نحن من الرويس.

- نحن من الحدثة.

- نحن من الدامون.

- نحن من المزرعة.

- نحن من شعب.

- نحن من ميعار.

- نحن من وعرة السريس.

- نحن من الزيب.

- نحن من البصة.

- نحن من الكابري.

- نحن من أقرت.

ولا تنتظر مني يا محترم، بعد هذا الوقت الطويل أن أتذكر جميع القرى الدارسة، التي انتسبت إلىها الأشباح في باحة جامع الجزار. هذا مع العلم بأننا نحن، أولاد حيفا، كنا نعرف عن قرى سكوتلندة أكثر مما كنا نعرف عن قرى الجليل. فأكثر هذه القرى لم أسمع به إلاّ تلك الليلة.

لا تلمني، يا محترم، بل لم أصحابك. ألم يكتب شاعركم الجليلي توفيق زياد.:

(سأحفر رقم كل قسيمة

 

من أرضنا سلبت

 

وموقع قريتي، وحدودها

 

وبيوت أهليها التي نسفت

 

وأشجاري التي اقتلعت

 

وكل زهيرة برية سحقت

 

لكي أذكر

 

سأبقى دائمًا أحفر

 

جميع فصول مأساتي

 

وكل مراحل النكبة

 

من الحبة

 

إلى القبة

 

على زيتونة

 

في ساحة الدار)?

فإلى متى يظل يحفر وتظل سنُو النسيان تعبر وتمحو? ومتى سيقرأ لنا المكتوب على الزيتونة? وهل بقيت زيتونة في ساحة الدار?

فلما لم يتلقوا مني أجوبة شافية، وأدركوا أنني لا أعرف من عباد الله سوى أهلي والأدون سفسارشك، انفضوا من حولي وعادوا إلى زواياهم. فبقيت مع معلمي.

الإشارة الأولي من الفضاء السحيق

 

فلما انفض السامر، وبقيت وحدي مع معلمي، الذي أنقذني من غضب الأشباح، شعرت بالامتنان، وبرغبتي في التعبير عنه. كان معلمي هذا، كما تذكر يا محترم، هو السبب في انقطاع صلتي بـ (يعاد)، ذات العينين الخضراوين. ولكن قلبي كبير. فقلت له: إنني مسرور بأن أبيت في كنفه ليلتي الأولي في هذه الدولة الجديدة. فهو، بعد الأدون سفسارشك، وصية أبي. فماذا تفعل هنا يا معلمي?

قال: أجمع الشمل.

ثم قال: والحقيقة، يا ولدي أنهم ليسوا أسوأ من غيرهم في التاريخ.

فهززت رأسي استحسانًا.

فقال: حقًا إنهم هدموا القرى التي ذكرها القوم، وشردوا أهلها. ولكن، يا ولدي، إن في قلوبهم لرأفة لم يحظ بها أجدادنا من الغزاة الذين سبقوهم.

خذ لك عكا هذه مثلاً. فحين افتتحها الصليبيون في سنة 1104، بعد حصار دام ثلاثة أسابيع، ذبحوا أهلها ونهبوا أموالهم.

وبقيت في أيديهم 83 عامًا حتى حررها صلاح الدين بعد وقعة حطين التي علمتكم عنها في المدرسة.

ثم عاد الصليبيون فحاصروا عكا مدة سنتين كاملتين، من آب 1189 حتى تموز 1191، فأكره الجوع أهلها على الاستسلام بشروط قاسية. فلما لم يستطيعوا إيفاءها أمر ملكهم ريتشارد ليون هارت (يعني قلب الأسد) بذبح 2600 رأس من رؤوس الرهائن الآدمية. وظلت عكا في أيديهم قرنًا كاملاً، مئة عام من الزمن يا بني، حتى حررها القائد المملوكي قلاوون، سنة .1291 وكان لقبه العسكري هو (الألفي)، تقديرًا للثمن الباهظ الذي دفع فيه، وهو ألف دينار.

فأردت أن أثبت له أنني لا أزال من طلابه النجباء، فسألته:

- فهل رتبة (الألوف) من جنرالاتهم الآن، يا معلمي، منحوتة من هذا المعني?

- حاش وكلا يا بني. بل تعود إلى قائد الألف في التوراة. هؤلاء ليسوا مماليك، وليسوا صليبيين، بل عائدون إلى وطنهم بعد غيبة ألفي سنة.

- ما أقوى ذاكرتهم!

- على كل حال، يا بني، ظل الحديث يجري، منذ ألفي سنة، على الألوف، قادة ألفيون، أو ألوفيون، وقتلى بالألوف. ليس هناك على الأرض أقدس من دم الإنسان، يا بني، ولذلك سميت بلادنا بالمقدسة.

- ومدينتي حيفا، أيضًا، مقدسة?

- كل مكان في بلادنا قد تقدس بدماء المذبوحين، ويظل يتقدس يا بني. ومدينتك حيفا لا تختلف عن بقية مدننا المقدسة. فبعد أن اكتسح الصليبيون مدينة القدس المقدسة، عليها السلام، في سنة 1099، وكتب ملكهم جوتفريد في رسالته إلى البابا متباهيًا بأن (أكوام الرؤوس والأيدي والأرجل كانت ترى في ساحات المدينة وطرقاتها)، وبأنه في مسجد عمر، رضي الله عنه، حيث التجأ المسلمون (وصلت الدماء إلى ركب الخيل)، ذهبوا وافتتحوا حيفا بعد أن حاصرها أسطول البندقية شهرًا. فذبحوا أهليها عن بكرة أبيهم، رجالاً ونساء وأولادًا.

فحيفا ليست مدينة جديدة يا بني، إلاّ أنه بعد كل مذبحة، لم يبق فيها من يخبر الذرية بأصلها.

- فلماذا لم تعلمونا عن هذه القدسية يا معلمي?

- من حق الإنجليز أن يتباهوا بتاريخهم، يا ولدي. وخصوصًا بملكهم العظيم ليون هارت. وبدون أن نعلمكم هذه الأمور شاركوا هم أيضًا، بدمائنا، في عملية تقديس بلادنا. والتاريخ يا بني، لا يصح في عيون الغزاة إلا بتزوير التاريخ.

- فهل سيسمحون لنا، يا معلمي، بدراسة هذا التاريخ بعد أن جلا الغزاة ونالت البلاد استقلالها?

- انتظر فتر.

- وهل يدخلون جامع الجزار كما دخل الصليبيون مسجد عمر?

- حاش وكلا يا بني، بل يقرعون الباب فنخرج نحن إلىهم. إنهم لا يدنسون حرمة دور العبادة، بل إن لهم في خارجها، متسعًا لهذا الأمر.

وما أن أكمل معلمي كلامه المطمئن هذا، حتى سمعنا قرعًا شديدًا على الباب. فقال معلمي: لقد جاءوا.

فقلت: ربما جاء الأدون سفسارشك من حيفا ليستفسر عن حالي.

ولكن معلمي كان قد بلغ الباب. وكانت الأشباح قد استيقظت، وأخذت تحوم في فناء الجامع على غير هدى.

وحبسنا أنفاسنا ونحن نستمع إلى الأمر بأن الجيش قرر أن يعيد اللاجئين، الملتجئين في كنف المسجد، إلى قراهم الأصلية حالاً.

فهمس شبح إلى جانبي: فلماذا لا ينتظرون حتى الصباح?

فأدهشني هذا السؤال، وقلت: خير البر عاجله.

فصاح الآمر: سعيد أبو النحس يبقى وحده مع المعلم، وجميع الآخرين ليخرجوا!

فتحققت كلام معلمي أنهم ليسوا أسوأ من الملك ليون هارت.

وانسلت شكرية، التي ماتت ابنتها، من الباب الشرقي وهي تحمل طفلتها على يديها. وقبل أن تغيب في السوق العتم سألتها: إلى أين? قالت: في الصباح ادفنها في عكا وأتوكل.

وانسل آخرون من الباب الجنوبي ليضيعوا في أزقة عكا القديمة. فسألت: لماذا? فقالوا: ما عندنا أدون سفسارشك، والذي هدم قرانا لا يعيدنا إلىها.

وأما الباقون فحملوا خرقهم، وأولادهم، وخرجوا من الباب الشمالي الكبير حيث حملوا في سيارات ضخمة حملتهم، كما أخبرني معلمي فيما بعد، إلى الحدود، حيث ألقتهم شمالاً، وتوكلت.

فعاد معلمي واتكأ حيث كنت متكئًا على المزولة وقد زاولني القلق. وقال: قم الآن ونم، لقد فرغت الليلة جعبتي.

ولكنني لم أنم.

ففي تلك الليلة، في ساعة الفجر الكاذب، شاهدت الإشارة الأولي من الفضاء السحيق.

سعيد يفشي بسرّ عجيب من أسرار العائلة

 

أرقت، لا لأنني كنت مضطربًا، بل لأنني كنت مبهورًا بطالعي الحسن. فها أنا ذا أعود إلى أرض الوطن متسللاً، فلا ينالني سوء، مع أن شعبي كله يهيم على وجهه مشردًا، فإذا لم يهم، هيموه.

إلاّ أنا. أتسلل في سيارة الدكتور عشيق أختي، فيبقى عفاف أختي مصونًا بفضل زوجة مضيفنا في معليا، فأنتقل من السيارة إلى الدابة، ومن الدابة إلى الجيب. وفي الطريق إلى عكا أنجو من الموت الأكيد بفضل انكماشي الذي جاء في وقته. فألتجئ إلى جامع الجزار في كنف معلمي الذي عفوت عنه، فيأتي العسكر ويقذفون بالأشباح، وبأطفال الأشباح، إلى ما وراء الخطوط، سوى سعيد أبي النحس المتشائل، فكيف لا أشعر بأن هذه الليلة هي ليلة سعدي?

لا يمكن أن يكون الأدون سفسارشك هو سبب كل هذا السعد. هل هو خاتم شبيك لبيك? أو هو قنديل علاء الدين? إن في الأمر لسرًا خارجًا عن قدرة البشر.

فقررت أن أخرج لأكشفه. وقبل أن أخرج. عفوًا يا أستاذ. بل قبل أن أروي لك ما جرى لي بعد خروجي، من الضروري أن أعرفك بخصلة أصيلة أخرى من خصال عائلتنا العريقة، بالإضافة إلى التشاؤل، وإلى أننا مطلاقون.

كان والدي، حين استشهد، يستشف الأرض تحته. فلم يكشف الكمين الذي كمن له وأودي بحياته. ووالده، من قبله، شج رأسه بحجر الطاحون لأنه كان ينظر في الأرض بين قدميه، فلم يقم بعدها.

فهذه هي شيمة عائلتنا النجيبة، أن نظل نبحث تحت أقدامنا عن مال سقط سهوًا من صرة عابر سبيل لعلنا نهتدي إلى كنز يبدل حالنا الرتيبة تبديلاً.

وثق، يا محترم، بأنه ما من عجوز، في طول بلاد العرب وعرضها، يسبق رأسها بقية جسمها إلى القبر، وتدب مقوسة مثل رقم 8 ، إلاّ ولها صلة قربى بنا. وما من شاب ينصب الفخاخ لالتقاط نشرات الأخبار الإذاعية، لا يبقي محطة ولا يذر، مثل صياد السمك الذي يلقي بصنانيره لعل السمكة الذهبية تعلق بإحداها، إلاّ ويكون ابن عم أو ابن خال.

ولكن، يجب ألاّ تفهم من هذا الكلام أن جدودنا لم ينتهوا إلاّ برؤوس مهشمة. بل لقينا أموالاً ضائعة كثيرة، جيلاً بعد جيل، فلم تبدل شيئًا من حياتنا الرتيبة.

ومن أسرار العائلة أنه في زمن خروج الأتراك ودخول الإنجليز، خرج عمي لجدي من بيته في القرية الفلانية - نحن، مثل الماسون، لا يمكن أن نفشي أسرارنا العائلية - وكان ينظر إلى أسفل كعادتنا. فاصطدم رأسه بحجر في بيت خراب. وكانت جمجمته صلبة. فتدحرج الحجر من مكانه. فانكشفت أمامه هوة تغضنت في سفحها درجات هبط عليها، فإذا بظلام خفاش. فقدح زناد فكره، فقدح زناده، فاستضاء. فرأى لحودًا رخامية أخذ يفتحها فإذا فيها جماجم وبقية عظام، وغاليات ذهبية دسها في دكة سرواله، حتى فتح لحدًا أكبر من الآخرين، فإذا فيه، مع الجمجمة التي كانت، كما قيل، أصغر حجمًا من بقية الجماجم، تمثال من الذهب الخالص للخان مانجو، أكبر إخوة هولاكو، الذي صرعته الدوزنطاريا وهو يغزو الصين. فنقل جثمانه الضخم إلى عاصمة ملكه على حمارين. ولم يكونوا قد بلغوا في ذلك الوقت ما بلغناه من علم، فلم يهتدوا إلى فرق الكشافة. ولم تكن لديهم مدارس يصفون أولادها على الجانبين، كما فعلوا بنا في حيفا في الثلاثينيات، حين صفونا على جانبي شارع الناصرة أمام عامود فيصل حاليًا نقل العامود، أخيرًا، بضعة أمتار بالقرب من مقابر آل مراد إلى يسار محطة سكة حديد حيفا الشرقية.، لنشيع جثمان الملك فيصل الأول، الذي مات في سويسرة بغير الدوزنطاريا.

ولذلك قرروا أن يقتلوا كل من تلقاه الجنازة في طريقها، احترامًا لذكرى خان الأول، كما قتلنا في الثلاثينيات ثلاثة أيام دراسة احترامًا للملك الأول. فأزهقوا في طريق هذه الجنازة، بحسب ما سجله المؤرخون، عشرين ألف روح وروحًا واحدة، هي روح عمي لجدي الذي لفظ أنفاسه الأخيرة وهو متشبث بصنم الخان مانجو بعد سبعة قرون.

تبين عمي لجدي، وهو في القاع، أنه أخيرًا لقي الكنز الذي ظلت العائلة تبحث عنه عبر الأجيال، فدهمته الفرحة، فأضاع فتيله، فلم يجد الباب. فأخذ ينادي على زوجه مقدرًا أن بيته، الذي بجوار الخربة، هو الآن فوقه. وروى لها كل ما أسلفت ذكره. فسمعت صوته قادمًا من الأعماق. إلاّ أنه استحلفها بقبر والديها ألاّ تخبر أحدًا، حتى أخاه. بل أن تنزل إلىه من فتحة الهوة في حائط الخربة المهجورة. فخرجت. فلم تجد أي بيت مهجور في القرية. فعادت إلى البيت وألصقت جبينها بالأرض ونادت عليه. فشتمها على نزقها، وأمرها بالتزام الصمت حتى الصباح. فالصباح رباح. وسيجد طريقه لوحده.

فلما لم يعد، أخبرت أهله بالأمر. فقاموا يفتشون، فلم يجدوا أية خربة.

ولم يشاؤوا أن يبلغوا الحكومة حتى لا تضع يدها على الكنز فيضيع الكنز عليهم. وظلوا يبحثون عنه وعن صنم مانجو حتى قامت الدولة. أما زوجه، فلم تمت إلاّ بعد أن وجدت غيره، ولم يكن عاقرًا.

وأما أنا، فقررت ألاّ أموت مقوس الظهر كأسلافي. ومنذ نعومة أظفاري أقلعت عن البحث بين قدمي عن كنز للخلاص. بل رحت أبحث عنه فيما فوق، في هذا الفضاء الذي لا نهاية له، في هذا (البحر بلا ساحل) كما وصفه محيي الدين بن عربي.

فقد قيض لنا، ونحن في المدرسة الابتدائية، أستاذ مغضوب عليه مولع بعلم الفلك، حكى لنا حكايات العباس بن فرناس وجول فيرن، وتعصب للفلكيين العرب القدماء، من ابن رشد، الذي كان أول من درس بقع الشمس حتى البتاني الحراني الذي كان أول من استنتج أن معادلة الزمن تتغير تغيرًا بطيئًا مع مر الأجيال، وأول من توصل بكثير من الدقة إلى تصحيح طول السنة الشمسية. فإذا كانت مدتها الحقيقية، أعلن المغضوب عليه، هي 365 يومًا و5 ساعات و48 دقيقة و46 ثانية، فإن البتاني حددها بـ 365 يومًا و5 ساعات و46 دقيقة و32 ثانية، أي بفارق دقيقتين وأربع ثوان. فقد كان العرب، حين يفكرون - قال المغضوب عليه - أسرع حركة حتى من دوران الأرض حول شمسها، فأصبحوا الآن يتخلون عن ملكة التفكير لغيرهم.

وكان المغضوب عليه يبقينا في الصف بعد الدوام، ويغلق النوافذ، ثم يحكي لنا متباهيًا عن أبي الريحان محمد بن أحمد البيروني، الذي استنبط كروية الأرض وأن جميع الأجسام تنجذب نحوها قبل نيوتن بثمانمئة عام، وخصوصًا عن الحسن بن الحسن بن الهيثم الذي كان، وهنا يخفت صوت المغضوب عليه فيصبح همسًا ثوريًا، أول عالم انتهج الأسلوب العلمي المادي الحديث بضرورة الاعتماد على الواقع الموجود والأخذ بالاستقراء والمقارنة. فقد كان العرب حين يفكرون - قال الأستاذ المغضوب عليه - يعملون ثم يحلمون، لا كما يفعلون الآن، يحلمون ثم يظلون يحلمون.

ومنذ ذلك الحين وأنا أحلم بأن يذكرني التاريخ حين يذكر فلكيينا الأقدمين. وبقيت أحلم على هذا المنوال حتى جندلوا والدي، رحمه الله، وقامت دولة إسرائيل.

وكان أستاذنا المغضوب عليه يؤكد لنا أن العرب هم أول من استعمل الصفر للغاية نفسها التي نستعمله لها الآن، ثم قسم الواحد على صفر فأثبت لنا أن هذا الفضاء لا نهاية له، والكون فيه:

يسبح في بحر بلا ساحل

في حندس الغيب وظلمائه

 

فلا بد أن تكون فيه عوالم مثل عالمنا، وأرقى منا، فلا بد أن يأتوا إلىنا قبل أن نذهب إلىهم.

لقد خرج الأتراك وأتى إلىنا الإنجليز، فلم يتزحزح أستاذنا المغضوب عليه عن نظريته هذه. فكيف أتزحزح عنها، أنا الشاب وعمري كله أمامي، بعد أن خرج الإنجليز وأتتنا إسرائيل?

منذ ذلك الوقت وأنا أنظر إلى أعلى وأنتظر مجيئهم، فإما أن يبدلوا حياتي الرتيبة المملة تبديلاً، أو أن يأخذوني معهم.

وهل هناك من بديل?

لذلك خرجت من فناء جامع الجزار، في ساعة الفجر الكاذب، ورحت أجوب طرقات عكا المظلمة وأنا أتطلع إلى فوق.

كيف لم يمُتْ سعيد شهيدًا في وادٍ على الحدود اللبنانية

 

فلما كنت مطمئنًا على قدري، ومتحققًا أن الأسوأ لن يصيبني، هبطت الهوينا درجات الباب الشمالي، فملأت طاسة ماء من سبيل الطاسات، فارتويت وترحمت على أحمد الجزار. ثم سرت في سبيلي.

فإذا أمامي الطريق العريض حيث المسار شمالاً، إلى رأس الناقورة، فلبنان. فخفضت رأسي خجلاً من غزالة. وتحولت عنه.

كنا ثلاثة شبان زملاء صف واحد. فقررنا في نهاية الإضراب الكبير (1939) أن نعبر الحدود إلى لبنان فنزور دار القيادة في بيروت نطلب سلاحًا.

فركبنا سيارة الأجرة حتى قبيل رأس الناقورة. ثم انحرفنا يمينًا سيرًا على الأقدام بين كروم العنب. فهبطنا واديًا عميقًا، فأظلمت السماء. فلما أخذنا نصعد على كتفه المقابل، أنهكنا التعب وألهبنا العطش. فاستحثني الآخران، فبكيت. فخلفاني وراءهما بعدما خيراني بين الاستمرار في الصعود أو أن أموت شهيدًا. فاخترت الأمر الأول. ولم ألحق بهما إلاّ بعد أن كانا قد ارتويا من قطوف الدوالي الدانية. فرحت أروي غليلي، فلم ينتظراني.

وإذا بفتاة في مثل عمري، تنادي والدها: هذا شاب مجاهد من فلسطين. فيجيبها الفلاح من بعيد: اسقيه وأطعميه. فنتجاذب أطراف الحديث. فأقع في حبها. فتقول إن اسمها غزالة، وإنني غزالها. فقد كنت خلب بنات.

فأعدها بأن أعود إلىها بعد أسبوع، ومعي السلاح والذخيرة، فألتقيها تحت هذه الدالية.

فقالت إنها ستخبر والدها بالأمر، فلن يمانع بأن يخطبها شاب حلو من فلسطين.

فأنحني عليها كي أقبلها. فتنفر غزالة ضاحكة وهي تقول: عد أولاً من بيروت. فلا أتبين سبب صدها. ولكنني أسرع كي ألحق برفيقي.

فأراهما أمامي على طريق الأسفلت تحيط بهما جماعة من شرطة الحدود اللبنانية. فقلت في نفسي: مليح أنني تأخرت عنهما، وأنني علقت غزالة.

فرأيت رجال الشرطة وهم ينحرفون بهما عن طريق الأسفلت، يسارًا، وينزلون بهما إلى معسكر على الشاطئ، فيغيبون فيه.

فسرت في الطريق نفسها مبتعدًا عنهم. فلم يلحظوني. قلت: نجوت. ولكن، أين أسير? لا مال عندي ولا عنوان. فكيف أتدبر أمري في بيروت?

قلت في نفسي: هذا أسوأ من الحبس. فعلي أن أعود إلىهما، فالحبس أقل سوءًا.

فعدت إلىهم. فسألني ضابطهم: ومن أنت? قلت: ثالثهم. قال: فلماذا سلمتنا نفسك? قلت: لا مال ولا عنوان.

- فأين مالكم?

قلنا: لدى كبيرنا.

وكنا جمعنا لديه عشرين جنيهًا، مالاً صامتًا، أخذ العسكر نصفه وشتمونا. وأما النصف الآخر فأبقوه مع كبيرنا، فأنفقناه فيما وراء البنك في بيروت. وعدنا على الطريق نفسها. ولكننا لم نحد عنها نحو كروم الدوالي، فقد كان الضابط اكتفى بالجنيهات العشرة ذهابًا وإيابًا. فلما التقانا عائدين حيانا وسأل: أين السلاح أيها المجاهدون? أجاب كبيرنا: سلاحنا العلم، وما معنا شروى نقير. فلم يشأ الضابط أن يقتسمها. بل صفع كبيرنا على قفاه وصاح: اعبروا! فطرنا هاربين نحو حدودنا، وكبيرنا يقول: العلم بالشيء ولا الجهل به.

فقلت: مليح أن صار هكذا، ولم يصر غير شكل. فصفعاني. فبكيت.

ولكنني كنت أبكي على غزالة التي ضاع غزالها في بيروت. وتبينت سبب صدها.

وبقيت، وأنا في صور فيما بعد لاجئًا، أتوق إلى زيارة الدالية على الحدود، حتى سمعت الدكتور عشيق أختي، يومًا يقول: أصبح الفلسطينيون لاجئين تنفر البنات منهم. فتحولت نحو اللاجئات. فاللاجئات للاجئين. فوجدتهن، على غير حالتنا، مشتهيات. فانشغلن عنا. فعدت إلى دولة إسرائيل وأنا عطشان